فصل: تفسير الآيات (15- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.سورة المجادلة:

مدنية وقيل العشر الأول مكي والباقي مدني، وآيها اثنتان وعشرون آية.

.تفسير الآية رقم (1):

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)}
{قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى الله} روي أن خولة بنت ثعلبة ظاهر عنها زوجها أوس بن الصامت، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «حرمت عليه»، فقالت: ما طلقني فقال: «حرمت عليه»، فاغتمت لصغر أولادها وشكت إلى الله تعالى فنزلت هذه الآيات الأربع، وقد تشعر بأن الرسول عليه الصلاة والسلام أو المجادلة يتوقع أن الله يسمع مجادلتها وشكواها ويفرج عنها كربها، وأدغم حمزة والكسائي وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر دالها في السين. {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما} تراجعكما الكلام وهو على تغليب الخطاب. {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} للأقوال والأحوال.

.تفسير الآيات (2- 7):

{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)}
{الذين يظاهرون مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ} الظهار أن يقول الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أمي مشتق من الظهر، وألحق به الفقهاء تشبيهها بجزء أنثى محرم، وفي {مّنكُمْ} تهجين لعادتهم فيه فإنه كان من إيمان أهل الجاهلية، وأصل {يظاهرون} يتظاهرون وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {يظاهرون} من أظاهر وعاصم {يظاهرون} من ظاهر. {مَّا هُنَّ أمهاتهم} أي على الحقيقة. {إِنْ أمهاتهم إِلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ} فلا تشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن كالمرضعات وأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن عاصم أمهاتهم بالرفع على لغة بني تميم، وقرئ ب {أمهاتهم} وهو أيضاً على لغة من ينصب. {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ القول} إذ الشرع أنكره. {وَزُوراً} منحرفاً عن الحق فإن الزوجة لا تشبه الأم. {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} لما سلف منه مطلقاً، أو إذا تيب عنه.
{والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} أي إلى قولهم بالتدارك ومنه المثل: عاد الغيث على ما أفسد، وهو بنقض ما يقتضيه وذلك عند الشافعي بإمساك المظاهر عنها في النكاح زماناً يمكنه مفارقتها فيه، إذ التشبيه يتناول حرمته لصحة استثنائها عنه وهو أقل ما ينتقض به. وعند أبي حنيفة باستباحة استمتاعها ولو بنظرة شهوة. وعند مالك بالعزم على الجماع، وعند الحسن بالجماع. أو بالظهار في الإِسلام على أن قوله: {يظاهرون} بمعنى يعتادون الظهار إذ كانوا يظاهرون في الجاهلية، وهو قول الثوري أو بتكراره لفظاً وهو قول الظاهرية، أو معنى بأن يحلف على ما قال وهو قول أبي مسلم أو إلى المقول فيها بامساكها، أو استباحة استمتاعها أو وطئها. {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي فعليهم أو فالواجب اعتقاق رقبة والفاء للسببية، ومن فوائدها الدلالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار، والرقبة مقيدة بالإيمان عندنا قياساً على كفارة القتل. {مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} أن يستمتع كل من المظاهر عنها بالآخر لعموم اللفظ ومقتضى التشبيه، أو أن يجامعها وفيه دليل على حرمة ذلك قبل التكفير. {ذلكم} أي ذلكم الحكم بالكفارة. {تُوعَظُونَ بِهِ} لأنه يدل على ارتكاب الجناية الموجبة للغرامة ويردع عنه. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} لا تخفى عليه خافية.
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي الرقبة والذي غاب ماله واجد. {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} فإن أفطر بغير عذر لزمه الاستئناف وإن أفطر لعذر ففيه خلاف، وإن جامع المظاهر عنها ليلاً لم ينقطع التتابع عندنا خلافاً لأبي حنيفة ومالك رضي الله تعالى عنهما. {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} أي الصوم لهرم أو مرض مزمن أو شبق مفرط فإنه صلى الله عليه وسلم رخص للأعرابي المفطر أن يعدل لأجله.
{فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً} ستين مداً بمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رطل وثلث لأنه أقل ما قيل في الكفارات وجنسه المخرج في الفطرة، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره، وإنما لم يذكر التماس مع الطعام اكتفاء بذكره مع الآخرين، أو لجوازه في خلال الإطعام كما قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه. {ذلك} أي ذلك البيان أو التعليم للأحكام ومحله النصب بفعل معلل بقوله: {لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ}، أي فَرضَ ذَلِكَ لتصدقوا بالله وَرَسُولِهِ في قبول شرائعهِ وَرَفْض مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ في جاهليتكم {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} لا يجوز تعديها. {وللكافرين} أي الذين لا يقبلونها. {عَذَابٌ أَلِيمٌ} هو نظير قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} {إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ} يعادونهما فإن كلاً من المتعادين في حد غير حد الآخر، أو يضعون أو يختارون حدوداً غير حدودهما. {كُبِتُواْ} أخزوا وأهلكوا وأصل الكبت الكب. {كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني كفار الأمم الماضية. {وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات} تدل على صدق الرسول وما جاء به. {وللكافرين عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذهب عزهم وتكبرهم.
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله} منصوب ب {مُّهِينٌ} أو بإضمار اذكر. {جَمِيعاً} كلهم لا يدع أحداً غير مبعوث أو مجتمعين. {فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} أي على رؤوس الأشهاد تشهيراً لحالهم وتقريراً لعذابهم. {أحصاه الله} أحاط به عدداً لم يغب منه شيء. {وَنَسُوهُ} لكثرته أو تعاونهم به. {والله على كُلّ شَئ شَهِيدٌ} لا يغيب عنه شيء.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} كلياً وجزئياً. {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة} أي ما يقع من تناجي ثلاثة، ويجوز أن يقدر مضاف أو يؤول {نجوى} بمتناجين ويجعل {ثلاثة} صفة لها، واشتقاقها من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض فإن السر أمر مرفوع إلى الذهن لا يتيسر لكل أحد أن يطلع عليه. {إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} إلا الله يجعلهم أربعة من حيث أنه يشاركهم في الاطلاع عليها، والاستثناء من أعم الأحوال. {وَلاَ خَمْسَةٍ} ولا نجوى خمسة. {إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} وتخصيص العددين إما لخصوص الواقعة فإن الآية نزلت في تناجي المنافقين، أو لأن الله تعالى وتر يحب الوتر، والثلاثة أول الأوتار أو لأن التشاور لابد له من اثنين يكونان كالمتنازعين وثالث يتوسط بينهما، وقرئ: {ثلاثة} و{خَمْسَةٍ} بالنصب على الحال بإضمار {يتناجون} أو تأويل {نجوى} بمتناجين. {وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ} ولا أقل مما ذكر كالواحد والاثنين. {وَلاَ أَكْثَرَ} كالستة وما فوقها. {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} يعلم ما يجري بينهم. وقرأ يعقوب ولا أكثر بالرفع عطفاً على محل من {نجوى} أو محل لا أدنى بأن جعلت لا لنفي الجنس. {أَيْنَمَا كَانُواْ} فإن علمه بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة. {ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة} تفضيحاً لهم وتقريراً لما يستحقونه من الجزاء. {إِنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ} لأن نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل على السواء.

.تفسير الآيات (8- 14):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ}، نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عادوا لمثل فعلهم. {ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} أي بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول، وقرأ حمزة {وينتجون} وهو يفتعلون من النجوى وروي عن يعقوب مثله. {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله} فيقولون السام عليك، أو أنعم صباحاً والله تعالى يقول: {وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى} {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ} فيما بينهم. {لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولَ} هلا يعذبنا الله بذلك لو كان محمد نبياً. {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} عذاباً. {يَصْلَوْنَهَا} يَدخلونها. {فَبِئْسَ المصير} جهنم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجُوْا بِالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} كما يفعله المنافقون وعن يعقوب {فلا تنتجوا}. {وتناجوا بالبر والتقوى} بما يتضمن خير المؤمنين والاتقاء عن معصية الرسول. {واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيما تأتون وتذرون فإنه مجازيكم عليه.
{إِنَّمَا النجوى} أَي النجوى بالإِثم والعدوان. {مِنَ الشيطان} فإنه المزين لها والحامل عليها. {لِيَحْزُنَ الذين ءامَنُواْ} بتوهمهم أنها في نكبة أصابتهم. {وَلَيْسَ} أي الشيطان أو التناجي. {بِضَارّهِمْ} بضار المؤمنين. {شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله} إلا بمشيئته. {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} ولا يبالوا بنجواهم.
{يا أيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ في المجالس} توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض من قولهم: افسح عني أي تنح، وقرئ: {تفاسحوا} والمراد بالمجلس الجنس ويدل عليه قراءة عاصم بالجمع، أو مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يتضامون به تنافساً على القرب منه وحرصاً على استماع كلامه. {فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ} فيما تريدون التفسح فيه من المكان والرزق والصدر وغيرها. {وَإِذَا قِيلَ انشزوا} انهضوا للتوسعة أو لما أمرتم به كصلاة أو جهاد، أو ارتفعوا عن المجلس. {فَانشُزُواْ} وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الشين فيهما. {يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ} بالنصر وحسن الذكر في الدنيا، وإيوائهم غرف الجنان في الآخرة. {والذين أُوتُواْ العلم درجات} ويرفع العلماء منهم خاصة درجات بما جمعوا من العلم والعمل، فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به مزيد رفعة، ولذلك يقتدى بالعالم في أفعاله ولا يقتدى بغيره. وفي الحديث: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» {والله بِمَا تَعْمَلَونَ خَبِيرٌ} تهديد لمن لم يتمثل الأمر أو استكرهه.
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً} فتصدقوا قدامها مستعار ممن له يدان، وفي هذا الأمر تعظيم الرسول وإنفاع الفقراء والنهي عن الإِفراط في السؤال، والميز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا، واختلف في أنه للندب أو للوجوب لكنه منسوخ بقوله: {ءأشفقتم} وهو إن اتصل به تلاوة لم يتصل به نزولاً.
وعن على كرم الله وجهه إن في كتاب الله آية ما عمل بها أحد غيري، كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم. وهو على القول بالوجوب لا يقدح في غيره فلعله لم يتفق للأغنياء مناجاة في مدة بقائه، إذ روي أنه لم يبق إلا عشراً وقيل إلا ساعة. {ذلك} أي ذلك التصدق. {خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} أي لانْفُسِكُم من الريبة وحب المال وهو يشعر بالندبية لكن قوله: {فإن لَمْ تَجُِدُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيم} أي لمن لم يجده حيث رخص له في المناجاة بلا تصدق أدل على الوجوب.
{أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات} أخفتم الفقر من تقديم الصدقة أو أخفتم التقديم لما يعدكم الشيطان عليه من الفقر وجمع {صدقات} لجمع المخاطبين، أو لكثرة التناجي. {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} بأن رخص لكم أن لا تفعلوه، وفيه إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله عنه لما رأى منهم مما قام مقام توبتهم وإذ على بابُّها وقيل بمعنى إذا أو إن. {فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة}. فلا تفرطوا في أدائهما. {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} في سائر الأوامر، فإن القيام بها كالجابر للتفريط في ذلك. {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ظاهراً وباطناً.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ} والوا. {قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} يعني اليهود. {مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ} لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك. {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب} وهو ادعاء الإسلام. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن المحلوف عليه كذب كمن يحلف بالغموس، وفي هذا التقييد دليل على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر عدم مطابقته وما لا يعلم. وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان في حجرة من حجراته فقال: «يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل المنافق وكان أزرق فقال عليه الصلاة والسلام له: علام تشتمني أنت وأصحابك، فحلف بالله ما فعل ثم جاء بأصحابه فحلفوا فنزلت».

.تفسير الآيات (15- 22):

{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)}
{أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} نوعاً من العذاب متفاقماً. {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فتمرنوا على سوء العمل وأصروا عليه.
{اتخذوا أيمانهم} أي التي حلفوا بها، وقرئ بالكسر أي {أيمانهم} الذي أظهروه. {جُنَّةً} وقاية دون دمائهم وأموالهم. {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} فصدوا الناس في خلال أمنهم عن دين الله بالتحريش والتثبيط. {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم. وقيل الأول عذاب القبر وهذا عذاب الآخرة.
{لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئاً أُوْلَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} قد سبق مثله.
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ} أي لله تعالى على أنهم مسلمون. {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} في الدنيا ويقولون إنهم لمنكم. {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَئ} في حلفهم الكاذب لأن تمكن النفاق في نفوسهم بحيث يخيل إليهم في الآخرة أن الأيمان الكاذبة تروج الكذب على الله كما تروجه عليكم في الدنيا. {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} البالغون الغاية في الكذب حيث يكذبون مع عالم الغيب والشهادة ويحلفون عليه.
{استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} استولى عليهم من حذت الإِبل وأحذتها إذا استوليت عليها، وهو مما جاء على الأصل. {فأنساهم ذِكْرَ الله} لا يذكرونه بقلوبهم ولا بألسنتهم. {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان} جنوده وأتباعه. {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون} لأنهم فوتوا على أنفسهم النعيم المؤبد وعرضوها للعذاب المخلد.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ في الأذلين} في جملة من هو أذل خلق الله.
{كتاب الله} في اللوح. {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} أي بالحجة، وقرأ نافع وابن عامر {رُسُلِى} بفتح الياء. {إِنَّ الله قَوِىٌّ} على نصر أنبيائه. {عَزِيزٌ} لا يغلب عليه شيء في مراده.
{لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} أي لا ينبغي أن تجدهم وادين أعداء الله، والمراد أنه لا ينبغي أن يوادوهم. {وَلَوْ كَانُواْ ءَابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} ولو كان المحادون أقرب الناس إليهم. {أولئك} أي الذين لم يوادوهم. {كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمان} أثبته فيها، وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإِيمان، فإن جزء الثابت في القلب يكون ثابتاً فيه، وأعمال الجوارح لا تثبت فيه. {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ} أي من عند الله وهو نور القلب أو القرآن، أو بالنصر على العدو. قيل الضمير ل {الإيمان} فإنه سبب لحياة القلب. {وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا رَضِىَ الله عَنْهُمْ} بطاعتهم. {وَرَضُواْ عَنْهُ} بقضائه أو بما وعدهم من الثواب. {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله} جنده وأنصار دينه. {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} الفائزون بخير الدارين.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة».